في عالم يتسارع فيه كل شيء، أصبحت العلاقات الإنسانية، وعلى رأسها مؤسسة الزواج، تواجه تحديات غير مسبوقة. لم تعد الخلافات الزوجية مجرد شجارات عابرة، بل أصبحت مؤشراً دقيقاً على صحة العلاقة ومدى وعي طرفيها. في حلقة ثرية من “بودكاست مونولوج”، استضافت الدكتورة صابرين الصافي، المعالجة النفسية والتربوية الدكتورة نهاية الريماوي، لتغوصا في أعماق سيكولوجية الخلافات الزوجية، مقدمتين دليلاً شاملاً لفهم ديناميكياتها، وتأثيرها، وسبل التعامل معها بوعي ونضج.
الخلاف ليس مرضاً، بل عرضٌ طبيعي يحتاج إلى فهم
كانت نقطة الانطلاق الأساسية في الحوار هي إعادة تأطير مفهوم “الخلاف”. أكدت الدكتورة نهاية أن وجود الخلافات بين الأزواج ليس مؤشراً على فشل العلاقة، بل هو جزء طبيعي وصحي من أي تفاعل إنساني عميق. المشكلة لا تكمن في وجود الخلاف بحد ذاته، بل في كيفية إدارته والتعافي منه. فالسلوكيات المصاحبة للخلاف، مثل الإهانة أو التجريح، قد تترك ندوباً نفسية أعمق وأطول أمداً من سبب الخلاف الأصلي.
من يطفئ الحريق؟ الوعي هو القائد لا النوع الاجتماعي
في نقاش حول المسؤول عن تهدئة الأوضاع، طرحت الدكتورة صابرين السؤال التقليدي: هل الرجل “العقلاني” أم المرأة “العاطفية” هو الأقدر على إطفاء شرارة الخلاف؟ جاءت إجابة الدكتورة نهاية لتكسر هذه الصورة النمطية؛ فالمسؤولية لا تقع على جنس بعينه، بل على “الطرف الأكثر وعياً” في العلاقة. فالشخص الذي يمتلك ذكاءً عاطفياً أعلى، وقدرة على قراءة الموقف وتجاوز ردود الفعل الأولية، هو من يستطيع نزع فتيل الأزمة، بغض النظر عما إذا كان رجلاً أم امرأة. وأوضحت أن ميل الرجل لكبت مشاعره (نتيجة تنشئة اجتماعية تردد على مسامعه “الرجال لا يبكون”) وميل المرأة للتعبير المباشر، هما مجرد أساليب مختلفة للتعبير عن الألم، وليسا دليلاً على قدرة أحدهما على التحكم أكثر من الآخر.
التركيبة النفسية: مفتاح فك شفرة الشريك
أكدت الحلقة على أن جزءاً كبيراً من الخلافات ينبع من جهل كل طرف بالتركيبة النفسية والبيولوجية للآخر. فالمرأة، بطبيعتها التي تتأثر بالهرمونات الأنثوية، تميل إلى الحساسية والبحث عن الأمان العاطفي والتواصل اللفظي. بينما الرجل، الذي يدفعه هرمون التستوستيرون، يميل إلى الاندفاع، وحل المشكلات بشكل عملي، والانسحاب إلى “كهفه” الخاص وقت الأزمات للتفكير بصمت. هذا الانسحاب الذي قد تفسره الزوجة على أنه إهمال أو لامبالاة، هو في الحقيقة آلية دفاعية ومعالجة داخلية لدى الرجل. إن فهم هذه الاختلافات الفطرية والمكتسبة هو الخطوة الأولى نحو التعاطف بدلاً من إطلاق الأحكام.
تأثير الخلافات على الأبناء: صناعة رجال محطمين أم أطفال أقوياء؟
لعل من أكثر المحاور تأثيراً في النقاش كان تسليط الضوء على الأبناء، الضحايا الصامتين للخلافات الزوجية. أكدت الدكتورة نهاية أن البيئة الأسرية غير الآمنة والمليئة بالصراعات تنتج أطفالاً يعانون من جوع عاطفي، يظهر في سلوكياتهم المضطربة، وتراجعهم الأكاديمي، وبحثهم المبكر عن الأمان في أماكن خاطئة. واستشهدت بمقولة بليغة: “أن نبني أطفالاً أقوياء خير من أن نصلح رجالاً محطمين”. فالطفل الذي يشهد خلافات والديه يخزن هذه الأنماط السلوكية في عقله الباطن، ومعرض بشدة لتكرارها في علاقاته المستقبلية بشكل لا واعٍ. لكن الرسالة لم تكن سوداوية بالكامل، بل حملت أملاً بأن الوعي والعمل على الذات يمكن أن يكسرا هذه الحلقة المفرغة.
الفجوة العاطفية وشعارات التحرر الزائفة: تحديات العصر الحديث
تطرقت الحلقة إلى ظاهرتين حديثتين: “الفجوة العاطفية” التي تتسع بين الزوجين نتيجة تراكم الخلافات غير المحلولة، والشعارات الرائجة على وسائل التواصل الاجتماعي مثل “تحرري” و”أحبي نفسك” التي تدعو المرأة إلى هدم العلاقة عند أول عقبة. حذرت الدكتورة نهاية من أن الفجوة العاطفية إذا طالت، فإنها تقتل المشاعر وتولد جفاءً يصعب ترميمه. أما الشعارات الرائجة، فوصفتها بأنها “أفكار مغلوطة” تدعو إلى الأنانية بدلاً من الشراكة، وتدمر مفهوم الأسرة القائم على التكامل والأدوار المتبادلة، داعية إلى التمسك بمفهوم “العدالة” الذي يعطي كل طرف حقه بناءً على طبيعته واحتياجاته، لا “المساواة” التي تتجاهل الفروقات الجوهرية.
نقطة اللاعودة: متى يكون الطلاق حلاً ورحمة؟
في ختام النقاش، تم التمييز بين نوعين من الخلافات: الخلافات التي هي “ملح الحياة” والتي تقوي العلاقة بعد حلها، والخلافات الجوهرية التي تمس الكيان والهوية والخطوط الحمراء. فالخيانة، والإهانة المستمرة، ومحاولة طمس هوية الشريك، هي خلافات تدمر أساس العلاقة وهو الثقة والاحترام. في هذه الحالات، قد لا يكون الاستمرار في العلاقة خياراً صحياً، ويصبح الطلاق حلاً ورحمة يقي الطرفين والأبناء من بيئة سامة ومدمرة.
خلاصة القول، إن بناء زواج صحي لا يعني غياب الخلافات، بل امتلاك الوعي والأدوات لإدارتها. إنه رحلة مستمرة من التعلم عن الذات وعن الشريك، تتطلب ذكاءً عاطفياً، وتعاطفاً، ورغبة حقيقية في إنجاح العلاقة. وكما أكدت الدكتورة نهاية، فإن الهدف ليس تحديد “من المخطئ ومن المصيب”، بل العمل معاً لإيجاد حل، لأن المسؤولية في النهاية مشتركة، والنجاح أو الفشل هو نتيجة جهد الطرفين معاً.