فودكاست

بين العدالة والضغوط.. القاضي عامر القضاة يروي التجربة | فودكاست ضيف شريف

“البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر”، قاعدة قانونية تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تفتح الباب على عالم معقد من الإجراءات والقرارات التي تشكل جوهر النظام القضائي. في حوار معمق وشامل، يأخذنا القاضي المتقاعد والمحامي الحالي الأستاذ عامر القضاة في رحلة نادرة إلى ما وراء قوس المحكمة، كاشفاً عن خفايا مهنة القضاء وتحدياتها الإنسانية والقانونية، ومقدماً رؤية ثاقبة اكتسبها على مدار أكثر من 25 عاماً في خدمة العدالة.

تشريح القضية: من الشكوى إلى الحكم النهائي

يبدأ القضاة حديثه بتفكيك المسار الذي تسلكه أي قضية، وهي رحلة يجهلها الكثير من المواطنين حتى يجدوا أنفسهم طرفاً فيها. تبدأ الشرارة الأولى في المركز الأمني، حيث تُدوّن الإفادة الأولية، لتنتقل الأوراق بعدها إلى المدعي العام، الذي يمثل العقل المحرك في القضايا الجزائية. يقوم المدعي العام بتكييف الجرم، وسماع الأطراف، وجمع الأدلة. وهنا تظهر أولى المفارقات؛ فبعض القضايا، بحكم طبيعتها، تصل مباشرة إلى قاضي الصلح دون المرور بالمدعي العام، بينما تبدأ أخرى بشكوى مباشرة من المواطن أمام القاضي.

بعد اكتمال التحقيقات، يواجه المدعي العام ثلاثة خيارات حاسمة: إحالة القضية إلى المحكمة إذا وجد أدلة كافية (الظن)، أو حفظ الأوراق إذا لم يجد ما يستدعي المتابعة، أو اتخاذ قرار “جريء” كما يصفه القضاة، وهو منع المحاكمة، وهو قرار يختصر على المتهم عناء المحاكمة الطويلة إذا كانت الأدلة واهية من البداية، مع إبقاء الباب مفتوحاً لإعادة التحقيق حال ظهور أدلة جديدة.

أما في قاعة المحكمة، فتسير الإجراءات وفق تسلسل دقيق يبدأ بسماع بينات المشتكي، ثم إتاحة الفرصة للمشتكى عليه للدفاع عن نفسه. ويؤكد القضاة أن القضاء في الأردن يقوم على مبدأ التقاضي على درجتين (بداية/صلح ثم استئناف)، بينما تقف محكمة التمييز على قمة الهرم كمحكمة قانون، مهمتها ليست إعادة النظر في وقائع القضية، بل مراقبة مدى التطبيق الصحيح للقانون.

استقلالية القاضي: معركة تُخاض كل يوم

أحد أبرز المحاور التي تطرق إليها الحوار هو استقلالية القاضي، والتي يرى القضاة أنها ليست منحة، بل هي “صناعة ذاتية”. يعترف بأن القاضي يعيش في مجتمع متداخل العلاقات، من الرمثا إلى العقبة، ولا يمكن عزله تماماً. فالاتصالات الهاتفية والزيارات من شخصيات عامة أو وجهاء عشائر أمر وارد، لكن القاضي الحقيقي هو من يستقبل الجميع بدبلوماسية واحترام، بينما يبقى قراره النهائي محكوماً فقط بملف القضية ونصوص القانون.

ويفرق القضاة بين نوعين من الضغوط: الضغط المادي المتمثل في الكم الهائل من القضايا الذي يرهق القاضي ويؤثر على جودة الأحكام، والضغط الخارجي المتمثل في محاولات التأثير. وهنا، يلقي باللوم جزئياً على ثقافة مجتمعية لا تزال تؤمن بـ “المحامي المؤثر” أو “فلان يمون على القاضي”، وهي مفاهيم يؤكد أنها لا وجود لها داخل قاعة المحكمة، حيث يتساوى الجميع أمام القانون.

بين النص والروح: معضلات وتحديات قانونية

كشف الحوار عن بعض الثغرات والمعضلات التي تواجه القاضي، وأبرزها قضية إسقاط الحق الشخصي في الجرائم ذات الأثر المجتمعي. فعندما يضغط أهل الجاني على أهل المجني عليه لإسقاط حقهم، يجد القاضي نفسه مقيداً بنص قانوني يدفعه لتخفيف العقوبة، رغم قناعته الوجدانية بأن الجاني يستحق عقاباً أشد لتحقيق الردع العام.

كما تطرق إلى الجانب الإنساني للقاضي، مؤكداً أن القاضي يجب أن يتجرد من مشاعره الشخصية وظروفه الخاصة عند إصدار الحكم. “لا يحكم القاضي وهو غضبان”، قاعدة أساسية تمنعه من أن يتأثر باستفزاز متهم أو بظروفه الحياتية الصعبة. ويروي قصة شخصية عن تعرضه لحادث سير وإهانات بالغة، لكنه قابل الموقف بهدوء مطلق، وهو ما يعكس ضرورة ضبط النفس كأحد أهم سمات رجل القانون.

رؤية إصلاحية: نحو قضاء أكثر فعالية وإنصافاً

من موقعه الحالي كمحامٍ، يرى القضاة المشهد القضائي من زاوية جديدة، مما يمنحه رؤية واضحة للإصلاحات المطلوبة. ويشدد على ثلاث نقاط محورية:

  1. تحديث التشريعات: يشير إلى أن قانون العقوبات الحالي يعود لعام 1961، وأن بعض نصوصه وغراماته لم تعد تتناسب مع الواقع الحالي، مما يستدعي مراجعة شاملة لمواكبة الجرائم المستحدثة.
  2. أهمية التخصص: يرى أن تخصيص هيئات قضائية لنوع معين من القضايا، مثل قضايا الفساد، يرفع من كفاءة القضاة ويسرّع من وتيرة إنجاز القضايا.
  3. دعم الكادر القضائي: يوجه نداءً قوياً لضرورة تحسين الأوضاع المادية والمعنوية للقضاة والموظفين الإداريين المساندين لهم، الذين وصفهم بـ”الجنود المجهولين”، مؤكداً أنهم بحاجة إلى دعم أكبر يتناسب مع حجم الجهد والعبء الذي يتحملونه.

القانون والمجتمع في العصر الرقمي

في ختام الحوار، انتقل النقاش إلى تقاطع القانون مع التحديات المجتمعية المعاصرة، خاصة في ظل الانفتاح الرقمي. فقد أكد القضاة أن أكثر من ثلث القضايا المنظورة حالياً تتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، التي أصبحت سبباً رئيسياً في تفكك العديد من العلاقات الأسرية. ويرى أن قانون الجرائم الإلكترونية ساهم في الحد من التنمر وانتهاك الخصوصية، مشدداً على أن حرية التعبير تقف عند حدود عدم الاعتداء على الآخرين. ويعيد الأمر في النهاية إلى أساس التربية البيتية والرقابة الأسرية كخط دفاع أول لحماية الأجيال الجديدة.

في نهاية المطاف، يقدم بودكاست “ضيف شريف” مع القاضي عامر القضاة صورة متكاملة لميزان العدالة، ليس كآلة صماء تطبق القوانين، بل كمنظومة حية يديرها بشر يواجهون تحديات يومية، ويسعون لتحقيق العدالة في عالم متغير، تاركاً رسالة ملهمة للشباب الراغبين في دراسة القانون بأن هذه المهنة تتطلب ليس فقط العلم، بل الشخصية القوية والأخلاق الراسخة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى