لا يقتصر سرطان الثدي على كونه مجرد مرض عضوي يهاجم الجسد، بل هو زلزال نفسي واجتماعي يهز كيان المرأة بأكمله، ويجبرها على مواجهة أعمق مخاوفها وأسئلتها الوجودية. في حوار شيق وعميق مع المحاورة سندس خضر، تأخذنا السيدة سحر جرار، الناجية من سرطان الثدي والمدربة الحياتية، في رحلة ملهمة عبر فصول حياتها التي أعاد المرض تشكيلها، لتكشف لنا كيف يمكن لتحربة قاسية أن تتحول إلى منارة للأمل والوعي.
الخوف الموروث: عندما يسبق الألم التجربة
بدأت قصة سحر مع السرطان قبل إصابتها به بسنوات. فقد شهدت معاناة والدتها مع سرطان القولون ووفاتها، ثم عاشت تجربة أخرى أكثر إيلامًا مع إحدى المقربات التي استسلمت لسرطان الثدي بعد أن رفضت العلاج. هذه التجارب نقشت في وعيها الباطن صورة مرعبة للمرض، وربطته بالفقدان الحتمي واليأس. لهذا السبب، عندما اكتشفت إصابتها خلال فحص مبكر روتيني، لم تكن المفاجأة هي الشعور المسيطر، بل كان الخوف المتجذر الذي دفعها لاتخاذ قرارات جذرية.
مدفوعة بهذا الخوف العميق، قررت سحر أن تخوض المعركة بشروطها المتطرفة. على عكس التوصيات الطبية التي أشارت إلى أن حالتها في المرحلة الأولى ولا تتطلب إجراءات قاسية، أصرت على استئصال الثدي بالكامل، ثم طالبت بالخضوع للعلاج الكيماوي. كانت تصف قراراتها بأنها نابعة من “الألم المتبقي من الماضي”، حيث رأت في التضحية بجزء من جسدها وتحمل أقسى أنواع العلاج السبيل الوحيد لضمان بقائها من أجل أولادها، الذين كانوا هاجسها الأول والأخير.
العلاج: مواجهة الألم الجسدي والاجتماعي
كانت مرحلة العلاج الكيماوي هي الأصعب، ليس فقط بسبب آثاره الجسدية المؤلمة كالإعياء وفقدان المناعة، بل لتأثيره النفسي المدمر. تصف سحر بحرقة كيف كان تساقط شعرها ورموشها وحواجبها أكثر إيلامًا من عملية الاستئصال ذاتها، وكيف دفعها ذلك لتجنب النظر في المرآة.
وهنا يبرز الدور المحوري للدعم الأسري والمجتمعي. تحكي سحر عن قصص مؤلمة لنساء تخلّى عنهن أزواجهن بسبب وصمة العار والجهل المحيط بالمرض، وكيف أن بعض الأزواج كانوا يعتبرون زوجاتهم “سرطانًا” حقيقيًا بسبب رفضهم وعدم تعاطفهم. في المقابل، تسلط الضوء على تجربتها الإيجابية، حيث كان زوجها وأولادها وأصدقاؤها المقربون سندًا حقيقيًا. لعبوا دورًا فعالاً في احترام خصوصيتها وتقديم الدعم العملي والعاطفي، بدءًا من إحضار الطعام اليومي وانتهاءً بكلمات التشجيع التي كانت بلسمًا لجراحها. وتذكر بامتنان كيف قالت لها ابنتها الصغيرة: “أنتِ أمي وأحبكِ كيفما كنتِ، بشعر أو بدون شعر”، وهي جملة كانت أقوى من أي علاج.
التحول: من ناجية إلى ملهمة
لم تكن نهاية العلاج مجرد انتصار على المرض، بل كانت ولادة جديدة لسحر جرار. هذه التجربة القاسية علمتها دروسًا لم تكن لتتعلمها في الظروف العادية. أدركت قيمة ذاتها وأهمية إعطاء الأولوية لصحتها النفسية والجسدية. تقول إنها قبل المرض كانت شخصًا عمليًا يركز على الإنجاز والمهام، لكن السرطان علّمها التعاطف والتقبل والمحبة.
هذا التحول العميق قادها إلى تغيير مسارها المهني بالكامل. فبعد أن كانت حاصلة على ماجستير في الدراسات السكانية، قررت أن تتجه إلى مجال التدريب الحياتي، وتتخصص في دعم السيدات المصابات بسرطان الثدي في مختلف مراحل رحلتهن: عند التشخيص، وأثناء العلاج، وبعد التعافي. لقد حولت ألمها إلى رسالة، وخبرتها إلى أداة لمساعدة الأخريات على إيجاد القوة والأمل في أحلك الظروف.
رسالة أخيرة: أنتِ تستحقين
تختتم سحر جرار حديثها برسالة قوية لكل امرأة: أنتِ مهمة، وتستحقين العيش بصحة وراحة وأمان. وتؤكد أن الفحص المبكر والتثقيف الصحي هما السلاح الأقوى، وأن الخوف من المواجهة لا يؤدي إلا إلى تفاقم المعاناة. تدعو كل سيدة إلى عدم تجاهل صحتها من أجل الآخرين، لأنها عندما تعتني بنفسها، تصبح أقدر على العطاء والحب.
قصة سحر جرار هي شهادة حية على أن أقسى فصول الحياة، التي قد تبدو خريفًا تتساقط فيه الأوراق، يمكن أن تكون هي نفسها بداية لربيع جديد، ربيع من الوعي والنضج وتقدير الذات، حيث يزهر الإنسان من جديد بعد أن يواجه مخاوفه وينتصر عليها.




